الملخص
تستكشف هذه الدراسة الدور التحويلي للمناظرة في تعزيز الكفاءات المدنية والتفكير الأخلاقي والمشاركة العامة بين الشباب في البيئات المتأثرة بالنزاعات، مع التركيز على ليبيا. باستخدام منهجية كيفية مبنية على بيانات ميدانية، تم جمع البيانات من مشاركين متنوعين في أنشطة المناظرة، بما في ذلك القادة ومدراء المشاريع والمدربين والمناظرين من مختلف مناطق ليبيا الثلاث. أظهرت النتائج أن المناظرة تعزز التفكير النقدي والتعاطف والقيم الديمقراطية، مع تعزيز التماسك الاجتماعي وتقليل السرديات الانقسامية. وعلى الرغم من إمكانياتها، فإن التحديات مثل التنافسية تتطلب تصميمًا دقيقًا للبرامج. تؤكد الدراسة على أهمية المناظرة كأداة لتمكين الشباب وتكوين المواطن الفاعل والواعي في المجتمعات الهشة.

 المقدمة

في المجتمعات المتأثرة بالنزاعات، يُعدّ تعزيز المواطنة الفاعلة والمسؤولة عنصرًا حاسمًا في إعادة بناء النسيج الاجتماعي وتعزيز التنمية المستدامة. وتتمثل إحدى التحديات الأساسية في هذه السياقات في غياب المنصات التي تمكّن الشباب من الانخراط في حوار هادف، وتطوير مهارات التفكير النقدي، وممارسة المبادئ الديمقراطية. وتُعدّ المناظرة، كأداة تعليمية وتشاركية، وسيلة واعدة لمواجهة هذه التحديات من خلال تزويد الشباب بالكفاءات المدنية، ومهارات التفكير الأخلاقي، وفرص المشاركة العامة.

تتناول هذه الدراسة دور المناظرة في تشكيل مواطنين واعين وفاعلين في الدول المتأثرة بالنزاع، مع تركيز خاص على ليبيا، الدولة التي تشهد نزاعًا ممتدًا ومؤسسات هشة. وتهدف الدراسة إلى استكشاف ثلاثة محاور رئيسية: أولًا، تقييم فعالية المناظرة كأداة لتعزيز الكفاءات المدنية، والتفكير الأخلاقي، والمشاركة العامة في السياقات المتأثرة بالنزاعات؛ ثانيًا، تحليل الآليات التي تعزز من خلالها المناظرة هذه الكفاءات والممارسات لدى الشباب؛ وثالثًا، تحديد أفضل الممارسات لتنفيذ برامج المناظرات في مثل هذه البيئات الصعبة. وتُعالج هذه الأهداف من خلال مجموعة من الأسئلة البحثية المحورية، بما في ذلك: هل يمكن للمناظرة أن تكون وسيلة فعّالة لتعزيز المواطنة والتفكير الأخلاقي؟ كيف يمكن توظيفها بشكل فعّال؟ وما هي الاستراتيجيات التي تضمن نجاحها في السياقات المتأثرة بالنزاع؟

تعتمد منهجية البحث بشكل كبير على بيانات ميدانية جُمعت من 63 مشاركًا من أكثر من 12 مدينة ليبية من وسط وغرب وجنوب ليبيا، يمثلون قادة مؤسسات المناظرة، مدربي المناظرة والمناظرين الشباب، وذلك لتفادي أي انحياز في تمثيل العينة وضمان التنوع في خلفيات المشاركين وتجاربهم في مجال المناظرة. كما ضمّت العينة تنوعًا أكاديميًا شمل تخصصات من العلوم الإنسانية إلى العلوم الطبية والهندسية، بالإضافة إلى تنوع عمري يتراوح بين 19 و36 عامًا. وبسبب القيود الزمنية، جُمعت هذه البيانات من خلال استبيان إلكتروني يعتمد على الأسئلة النوعية. ويعود السبب الرئيسي وراء اعتماد هذا النهج لندرة الدراسات السابقة، ليس فقط في السياق الليبي، بل في البيئات المتأثرة بالنزاعات عمومًا. ولتقليل هذه الفجوة البحثية، صُممت الدراسة لتستند كليًا إلى البيانات الميدانية التي تم جمعها.

وأخيرًا، يبدأ هيكل البحث باستعراض دور المناظرة في تعزيز الكفاءات المدنية ومشاركة الشباب في البيئات المتأثرة بالنزاعات، كمقدمة لتحليل معمّق لمهارات التفكير النقدي واتخاذ القرار التي تُنمّى من خلال المناظرة. ويلي ذلك دراسة كيفية تعزيز المشاركة المدنية والقيم الديمقراطية من خلال المناظرة، مع تسليط الضوء على دورها في تنشئة مواطنين نشطين وواعين. ثم يتناول البحث دور المناظرة في بناء الثقة، والتفاهم، والسلام داخل المجتمعات الليبية، مبرزًا قدرتها التحويلية في معالجة الانقسامات المجتمعية. كما تبحث الورقة في الاستخدامات الأوسع للمناظرة في المجتمعات المتأثرة بالنزاع، مع التركيز على قابليتها للتكيّف مع التحديات الفريدة في ليبيا. وتختتم بتوصيات رئيسية حول سبل الاستفادة من المناظرة كأداة لتعزيز الكفاءات المدنية ومشاركة الشباب في ليبيا، مقدمًة رؤى عملية لصنّاع السياسات والممارسين في هذا المجال.

 دور المناظرة في تعزيز الكفاءات المدنية ومشاركة الشباب في السياقات المتأثرة بالنزاع

تُبرز البحوث السابقة المتعلقة بتعليم المواطنة، الدور الحاسم الذي تلعبه في تشكيل مواطنين مسؤولين وفاعلين. تقليديًا، ركز تعليم المواطنة على نشر المعرفة حول المؤسسات الديمقراطية، والحقوق، والواجبات. ومع ذلك، تشير الدراسات الحديثة إلى أن الأدوات التربوية المبتكرة، مثل المناظرة، تحمل إمكانيات فريدة في تعزيز التفكير النقدي (Omelicheva and Avdeyeva, 2008; Carroll et al., 2009; Şendağ and Ferhan, 2009; Fung and Howe, 2014)، والتفكير الأخلاقي، والمشاركة العامة الفاعلة. وتزيد أهمية هذا الأمر في المناطق المتأثرة بالنزاع مثل ليبيا، حيث تعيق الظروف السياسية والاجتماعية فرص المشاركة المدنية. بينما توفّر المناظرة وسيلة لتمكين الشباب وترسيخ ثقافة الحوار والمشاركة، مما يسهم في تعزيز روح المسؤولية والتفاعل مع المؤسسات المدنية والأوساط العامة.

لقد تم توثيق دور المناظرة في تعزيز الكفاءات المدنية على نطاق واسع. تؤكد Hess (2009) أن المناظرات المنظمة تتيح للطلبة التعامل مع قضايا خلافية وحساسة، مما يعزز قدرتهم على التفكير النقدي، والتعبير عن آرائهم، والنظر للأمور من زوايا متعددة. وبالمثل، يشير   (2009) Johnson and Johnson إلى أن المناظرة تُحفّز ما يُعرف بـ “الصراع المعرفي”، وهو النوع من الصراع الذي يواجهه الإنسان عندما يتعرض إلى أفكار جديدة أو مواقف مختلفة عن اعتقاداته الشخصية، الأمر الذي يعمّق الفهم ويعزز التفكير الأخلاقي. تتماشى هذه النتائج بشكل وثيق مع أهداف تعليم المواطنة، التي لا تقتصر فقط على تعريف الطلبة بالعمليات الديمقراطية، بل تسعى أيضًا لتزويدهم بالمهارات اللازمة للتفاعل الواعي والفعال معها، وترسيخ القيم المؤيدة للديمقراطية Hess (2009).

تكتسب المناظرة أهمية متزايدة في المجتمعات المتأثرة بالنزاع والتي يكون فيها النسيج الاجتماعي هشًا، حيث يشكل تشجيع الحوار بين الشباب عنصرًا جوهريًا في عمليات بناء السلام. إذ توفّر المناظرة منصة للأفراد من المجتمعات المنقسمة لمناقشة الاختلافات، والتعرف على الأسس والمنطلقات المشروعة لوجهات النظر المعارضة، وتطبيع الخلاف السياسي، Hess (2009) .  هذا النوع من الاختلاف الحيوي والتحدي الفكري يمكن أن يرسّخ علاقات أعمق وأكثر معنى بين الأفراد، مما يسهم في إعادة بناء الثقة ويعزز التسامح (2013) Johnson and Johnson. بالتالي، تعد المناظرة نموذجا مصغّرا للمشاركة الديمقراطية، من خلال الترويج للفهم المتبادل، ومهارات حل النزاعات.

في هذا السياق، نلاحظ أن الكفاءات المدنية التي تنمّيها المناظرة تنسجم إلى حد كبير مع الأهداف العامة لتعليم المواطنة، لاسيما في المجتمعات المتأثرة بالنزاع. وتشمل هذه الكفاءات مجموعة من المبادئ والمعايير التي تُوجه سلوك الأفراد والمجتمعات، بما يضمن التعايش السلمي، والتعاون، وتحقيق الصالح العام. وتُعدّ الكفاءات المدنية حجر الأساس في إعادة بناء واستقرار مجتمعات مثل ليبيا، حيث إنها تعزز الاستقرار، والتنمية، والسلام المستدام. وكما يوضح Mutia, Sapriya, and Halimi (2018)، فإن الكفاءة المدنية لا تُعزز السلام فحسب، بل تقلل أيضًا من احتمالية اندلاع نزاعات مستقبلية من خلال ترسيخ المبادئ الديمقراطية، والاحترام المتبادل، والعدالة، وسيادة القانون.

وفي الحالة الليبية، حيث التماسك الاجتماعي هش، يمكن أن تُشكّل المناظرة أداة فعّالة لتعزيز الكفاءات المدنية، وردم الفجوة بين المكوّنات المختلفة، وترسيخ ثقافة الحوار البنّاء. حيث تُشجع هذه الكفاءات الأفراد – لا سيما الشباب – على الانخراط الفاعل في الأنشطة المدنية مثل الانتخابات، والحوار المجتمعي، والمبادرات التطوعية، بما يسهم في بناء مستقبل مشترك.

تُعد مشاركة الشباب ضرورية بشكل خاص في عمليات إعادة الإعمار بعد النزاع، إذ أن الشباب هم الفئة الأكثر تأثرًا بالنزاعات، وفي الوقت ذاته يمثلون عنصرًا محوريًا في بناء السلام طويل الأمد. وقد يُسهم إشراك الشباب الذين تعرضوا للعنف في برامج تعليم المواطنة المنظمة – كبرامج المناظرة – في الحد من العنف على المستويين الفردي والمجتمعيColletta & Cullen (2000). ومن الأمثلة البارزة في هذا السياق مشروع “مناظرات المدارس”، الذي نُفّذ في ليبيا من قبل مؤسسة الحوار والمناظرة بالشراكة مع المعهد الوطني الديمقراطي NDI. استهدف المشروع الشباب من طلبة المرحلة الثانوية، ووظف المناظرة كأداة لتشجيع الشباب على المشاركة في المجتمع المدني، والانخراط في الحوار العام والعمليات الديمقراطية. وتشير النتائج إلى أن المناظرة تُعزّز بشكل ملحوظ ثقة الطلبة بأنفسهم في الحوار العام، واستعدادهم للتصدي لقضايا مجتمعاتهم، ما يبرز إمكانياتها التحويلية في البيئات المتأثرة بالنزاع.

 

باختصار، تُظهر الأدبيات والأبحاث السابقة بالإضافة إلى التجارب الميدانية المتعلقة بالتربية المدنية وتعليم المواطنة إن للمناظرة إمكانيات كبيرة في تنشئة مواطنين واعين، وأخلاقيين، وفاعلين، خصوصًا في سياقات النزاع. ومن خلال توظيف الرؤى النظرية والميدانية، تُبرز هذه الدراسة كيف يمكن للمناظرة أن تُسهم في تعزيز المواطنة الفاعلة والمشاركة الديمقراطية في ليبيا، حيث لا تزال المشاركة المدنية تمثل تحديًا رئيسيًا. وتُساهم هذه النتائج في إثراء النقاش الأوسع حول دور التعليم والحوار في تشكيل مستقبل المجتمعات المتأثرة بالنزاعات.

   تنمية التفكير الناقد والمنطق الأخلاقي من خلال المناظرة: رؤى من ليبيا

يُعد التفكير النقدي حجر الأساس لتمكين الأفراد من اتخاذ قرارات مستنيرة وفعّالة، لا سيما في المجتمعات المتأثرة بالصراع. فهو يتضمن القدرة على التمييز بين الحقائق والآراء والافتراضات، مما يمكّن الأفراد من تحديد المعلومات الدقيقة وتجنّب التضليل أو التحيّز، أو المغالطات المنطقية، الجرأة في التساؤل وتحدّي المعتقدات الراسخة. ومن خلال دعمه للتفكير المستقل المتحرر من الضغوط العاطفية أو المجتمعية، يمكّن التفكير النقدي الأفراد من اتخاذ قرارات موضوعية ومدروسة.

في المجتمعات المتأثرة بالنزاع تحديدا، تسهم الإشاعات والدعاية في تعميق الانقسامات الاجتماعية والسياسية، إذ تسعى جميع الأطراف إلى تشكيل الروايات بما يخدم مصالحها (Facione (2015. وتكمن أهمية هذه المهارة في تطوير قدرة الأفراد على فهم تعقيدات النزاع، والمساهمة في جهود بناء السلام، ومواجهة الصور النمطية التي تغذي الانقسام.

تُعد المناظرة من أكثر الأدوات فعالية في تنمية التفكير النقدي؛ إذ تُدرّب المشاركين على تحليل القضايا المعقدة، وفهم السياق، وتوضيح التحديات، وتحديد الأهداف، واقتراح حلول منطقية. وتُعزّز هذه العملية قدرتهم على تفكيك الأفكار المعقدة، وفهم العلاقات بين الأسباب والنتائج والعناصر الأساسية للمشكلة. وفي هذا السياق، أشار أحد المشاركين قائلاً:

“إن عملية تحليل القضايا وفهم المشكلة، واقتراح الحلول، واتخاذ القرار الأفضل خلال المناظرات، كانت فعالة للغاية في تطوير التفكير النقدي وتحسين مهارات اتخاذ القرار. تعلمنا كيف نقيّم الحلول، وننتقد البدائل، ونأخذ في الاعتبار الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمشكلة للوصول إلى الحل الأمثل”

تشجع المناظرة على التمييز بين الحقائق الموضوعية والآراء الشخصية أو الافتراضات غير المدعومة، وتقييم مصداقية المصادر والتحقق من دقة المعلومات، بحيث يعتمد المشاركون على بيانات موثوقة لبناء استنتاجاتهم. بالإضافة إلى هذا، تساهم عملية تحليل الحجة خلال المناظرة في زيادة قدرة الأفراد على رصد المغالطات المنطقية والانحيازات العاطفية.

أكد 93٪ من المشاركين في هذه الدراسة أن المناظرة قد حسّنت مهاراتهم في التفكير النقدي وقدرتهم على اتخاذ القرار. وقد أشار كثيرون إلى أن المناظرات التنافسية التي تتطلب تحليلاً سريعًا واتخاذ مواقف محددة خلال فترة زمنية قصيرة (مثل 20 دقيقة)، درّبت عقولهم على الاستجابة السريعة والمنهجية. وقد وصف بعضهم هذه المهارة بـ”العصف الذهني السريع”، الذي يساعد في التعامل مع القرارات المعقدة تحت الضغط، وينمي القدرات الذهنية. ومع ذلك، ذكر 7٪ من المشاركين أن المناظرة لم تؤثر كثيرًا في مهاراتهم في اتخاذ القرار، ومن خلال مقارنة بيانات الخبرة الخاصة بالمناظرين  المشاركين في هذا البحث وتباين آرائهم، نلاحظ بشكل واضح

تاثير محدودية المشاركة على استدامة الآثر وإحداث تغيير نوعي في مهارات المناظرين. يتوافق هذا الاستنتاج مع ما أشار إليه مدرب المناظرات محمد كندير، والذي يرى بأن:

“تأثير المناظرة وقدرتها على تطوير المهارات مرهون بعملية الممارسة المستمرة لها، حيث أن تنوع مواضيع المناظرات وتكرار عمليات النقد والتفكير والنقاش يعزز القدرة على الاستماع والتفاعل مع وجهات نظر مختلفة من شأنها تحسين المهارات الشخصية واستدامة هذا الأثر”

تُعد الطبيعة التفاعلية للمناظرات — والتي تجمع بين التعلم والممارسة والتغذية الراجعة — عنصرًا أساسيًا في تطوير التفكير النقدي. وكما أوضح محمد أبو سنينة، خبير المناظرات وعضو مجلس إدارة مؤسسة الحوار والمناظرة في ليبيا:

“علّمتني المناظرة أن تقييم ما هو أخلاقي يتطلب فهمًا عميقًا للسياق ومراعاة الظروف المحيطة؛ فليس من السهل دائمًا تحديد ما هو ‘صحيح’، بل هو عملية مستمرة من التقييم والمراجعة”

تُساهم التغذية الراجعة في صقل التحليل المنطقي وتدفع نحو التحسين المستمر في مهارات التفكير النقدي. بالإضافة إلى ذلك، تُعرّض المناظرات المشاركين لمعضلات أخلاقية، مما يدفعهم لتقييم الخيارات استنادًا إلى قيم مثل العدالة والمساواة والحرية وحقوق الإنسان. وتُسهم هذه التجربة في تنمية التفكير الأخلاقي واتخاذ قرارات مبنية على المبادئ. وقد أفاد 92٪ من المشاركين بأن المناظرة عمّقت فهمهم الأخلاقي. وصرّح أحدهم قائلاً:

“تلعب عملية التحكيم دورًا محوريًا في تعزيز التفكير النقدي لدى المتناظرين، إذ تتيح لهم إعادة النظر في طريقتهم في معالجة القضية المطروحة من منظور خارجي، مما يسمح بإعادة التقييم وبالتالي تحسين حججهم في المناظرات المستقبلية”

 

وتتجاوز هذه التحولات حدود المناظرة، إذ تُسهم في تشكيل المشاركين كفاعلين إيجابيين وأخلاقيين في تنمية المجتمع. وكما أوضح مصطفى البكوش:

“في إحدى المناظرات، ناقشنا مسؤولية الشركات تجاه المواطنين، وتعلمت أهمية الموازنة بين تحقيق الأرباح واحترام حقوق الإنسان والبيئة. وقد جعلني هذا أكثر وعيًا بأهمية الالتزام بالأخلاقيات في دراستي وعملي كمحاسب”

تُبرز هذه التجارب كيف تؤثر المناظرات في تشكيل المبادئ والسلوكيات الأخلاقية التي يربطها المشاركون بمسيرتهم الشخصية والمهنية.

بناء التفاهم المشترك: دور المناظرة في تعزيز التسامح والتعايش السلمي في ليبيا

تُعد الثقة، والتفاهم، وقبول الاختلافات ركائز أساسية لبناء مجتمعات متماسكة ومزدهرة، لا سيما في البيئات المتأثرة بالنزاع حيث تتعمق الفجوات الاجتماعية والثقافية. ولتحقيق هذه الركائز، تصبح مهارات الاستماع الواعي وفهم وجهات نظر الآخرين ضرورية ويجب تنميتها. إذ تُمكّن هذه الممارسات الأفراد من تجاوز تجاربهم الشخصية والتفاعل مع وجهات نظر مغايرة. ويُعد الابتعاد عن الأحكام المسبقة خطوة محورية في هذا السياق، لما له من دور في خلق بيئة تواصل آمنة تشجّع النقاش الهادئ والبنّاء بعيدًا عن الشخصنة والتصعيد. كما أن تشجيع التنوع الثقافي والديني والاجتماعي واحترامه يلعب دورًا جوهريًا في تعزيز التفاهم بين الأفراد، ويدعم قبول الآخر والتعايش معه، بما في ذلك احترام الرأي المختلف والتفاعل معه بعقلية منفتحة.

تؤدي المناظرة دورًا محوريًا في تمكين الأفراد من تقبل التنوع واحترام الاختلافات، من خلال وضعهم في مواقف تتحدى قناعاتهم الشخصية. إذ يُطلب من المناظرين الدفاع عن وجهات نظر معارضة لمعتقداتهم، مما يُنمّي قدرتهم على فهم الدوافع والمبررات المنطقية الكامنة خلف المواقف المختلفة. وتُعيد هذه التجربة تشكيل الطريقة التي يُقيّم بها الفرد وجهات النظر المتباينة، من خلال إدراك أن الخلافات تنبع غالبًا من أطر أخلاقية وتجارب شخصية وبيئات اجتماعية مختلفة. كما أوضح محمد أبو سنينة:

“إن تجربة الدفاع عن موقف مخالف لقناعاتك الحقيقية تسمح لك أحيانًا برؤية الأسباب الكامنة وراء تلك المواقف. وتصبح قادرًا على فهم وتلمّس وقبول دوافع الآخرين المختلفين عنك، خاصة في المجتمعات المتأثرة بالنزاع، حيث يغذّي العنف نظرة دونية إلى ‘الآخر’ وآرائه، ويجرّده من كرامته الإنسانية لمجرد اختلاف طريقة تفكيره”

وفي المجتمعات المتأثرة بالنزاع مثل ليبيا، حيث يندر وجود المرونة والانفتاح الذهني، وتمثل المناظرة فرصة جوهرية لتنمية هذه المهارات وتطويرها، كما أشار محمد كندير:

“الانخراط في مناظرات تشمل تنوعا كبيرا في المواضيع ووجهات النظر زرع فيّ الانفتاح والمرونة، ودفعني — دون أن أدرك — إلى البحث، والاستكشاف، وطلب المعرفة. ولهذا، أُدين كثيرًا لتجربة المناظرة”

تُشكّل هذه التغييرات نقطة تحوّل جوهرية تُعزّز قدرة الأفراد على إدارة الخلافات بفعالية، حيث ساعدت المناظرات العديد من الأفراد على تجاوز تحيّزاتهم تجاه أفكارهم ومعتقداتهم، ومهّدت لتحوّلهم إلى أفراد أكثر تقبلاً. تُلزم المناظرات المشاركين بتبنّي وجهات نظر مخالفة لقناعاتهم، مما يُعزّز فهمهم لتعدّدية الآراء ويقلل من الأحكام المسبقة. وفي هذا السياق، أفاد 96٪ من المشاركين بأن المناظرة ساعدتهم في فهم وجهات النظر المختلفة وتعزيز التفاهم المتبادل مع الآخرين. وقد شدد محمد الشامس، مدرب المناظرات على أهمية الاستماع الفعّال في المناظرات قائلاً:

“في المناظرة، لا يقتصر الأمر على ما تقوله، بل يشمل كيفية ردك على ما يقوله الطرف الآخر. وأعتقد أن هذا التدريب على الاستماع الفعّال يعزّز قدرة الأفراد على فهم الآخرين بوضوح، مما يخلق بيئة أكثر تعاونًا وتسامحًا”

ومع ذلك، يمكن القول إن الاستماع الفعّال وحده لا يكفي لتوليد الفهم الحقيقي للآخر. فالفهم العميق يتطلّب تعاطفًا حقيقيًا واستيعابًا لدوافع الآخرين من خلال “وضع النفس في موضعهم”. وفي سياق المناظرات، لا يكون الاستماع بهدف الإقناع أو المصالحة، بل للرد والدحض، حيث يبحث المناظر عن الثغرات والمغالطات في حجة خصمه. لكن التحوّل الحقيقي يحدث عندما يُدرك المناظر أن الاختلاف غالبًا ما ينبع من خلفيات وتجارب شخصية متنوعة، مما يُعيد تشكيل نظرته للعلاقة مع “الآخر”.

بالإضافة إلى هذا، فإن النشاطات الجامعية وبرامج الشباب التي تبنى على المناظرة تساهم أيضا بشكل كبير في كسر الصور النمطية وتعزيز التعاطف وتقويض الكراهية والأحكام المسبقة عن الآخر، فقد عبّر أحد المشاركين عن أن مشاركته في البطولات الوطنية للمناظرات غيّرت نظرته تجاه الأشخاص من مناطق مختلفة، مُشيرًا إلى أن هذه البطولات كانت محفّزًا رئيسيًا في تفكيك الانقسامات الاجتماعية والسياسية، وتعزيز الصداقات بين أناس من خلفيات متنوعة. كما سرد مشارك آخر تجربته في البطولة الوطنية للمدارس لعام 2021، حيث ساعدته في تحطيم الصور النمطية التي كان يحملها عن المنطقة الشرقية. وأكد أن مجتمعات المناظرة — من خلال التواصل المستمر بين أعضائها — خلقت بيئة تتجاوز الحواجز الجغرافية والثقافية، محليًا ودوليًا.

وتُعزّز إعادة تكرار هذه التجربة بمرور الوقت الفكرة القائلة بأن لكل وجهة نظر مبرراتها التي يمكن مناقشتها وتفنيدها، مما يُولّد فضولًا ورغبة لدى الأفراد في فهم دوافع ومبررات الآخرين التي دفعتهم لتبنّي مواقفهم. ويسهم هذا الوعي بشكل كبير في تقليل حدّة الانقسامات، والأحكام المتسرعة، وانتشار الكراهية داخل المجتمعات المتأثرة بالصراع، مما يجعلها أكثر قدرة على التعايش وإدارة الخلافات. وبناءً على هذه الشهادات، يمكن القول إن المناظرة تُشكّل منصة فعّالة لتعزيز السلم الاجتماعي من خلال بناء جسور الفهم بين الأفراد من خلفيات متنوعة. وفي مجتمعات مثل ليبيا، التي تعاني من التشرذم والصراع، تقدم المناظرة نموذجًا عمليًا لتعزيز التماسك الاجتماعي وتشكيل جيل أكثر استعدادًا للحوار البنّاء واحترام التعدّدية.

المناظرة كآلية لحل النزاعات والمصالحة في المجتمعات المنقسمة في ليبيا

استنادًا إلى ما سبق، لجأت منظمات المجتمع المدني في ليبيا بشكل متزايد إلى استخدام المناظرة كأداة أساسية في جهود بناء السلام والمصالحة الوطنية وتمكين الشباب. وقد أثبتت المناظرة قدرتها على التخفيف من حدة الخلافات والنزاعات، وتعزيز الحوار، وتفكيك الحواجز النفسية والاجتماعية بين المجتمعات المتصارعة. يشارك محمد أبو سنينة مبادرة بارزة في هذا السياق:

“في عام 2016، بدأنا بتدريب شباب من مجتمعين متجاورين غارقين في النزاع، وكان أحدهما قد تم تهجيره بالكامل منذ عام 2011. في البداية، أجرينا جلسات تدريبية منفصلة لكل مجموعة، ثم نظمنا مناظرات مشتركة حول مواضيع عامة. وقد ساعد هذا على كسر حاجز التواصل، ومهّد الطريق لمناقشة قضايا أكثر حساسية وارتباطًا بالنزاع”

ساهم هذا النهج في بناء صداقات بين شباب المجتمعين، وتوّج بتنسيق احتفالية مشتركة نُشرت على وسائل التواصل الاجتماعي. وعلى الرغم من أن ردود الفعل تجاه المبادرة كانت متباينة، فقد حظيت باعتراف رسمي من الحكومة، حيث تم إدماج ممثلين عن الشباب في لجنة حكومية، وقاموا لاحقًا بالتوقيع على ميثاق مصالحة يضمن حق عودة المجتمع المهجّر مع توفير الحماية الكاملة له. وتُبرز هذه التجربة كيف تسهم المناظرة في تطوير مهارات الشباب مع دعم جهود المصالحة وتعزيز التماسك الاجتماعي.

ويُظهر نجاح هذا المشروع الدور المحوري للمناظرة في كسر الحواجز النفسية والاجتماعية لدى الأفراد المتأثرين بالنزاع، من خلال خلق مساحة آمنة للحوار والفهم المتبادل. كما أن الاستراتيجية التدريجية التي تم اتباعها — بدءًا بتدريبات منفصلة، ثم الانتقال إلى نقاشات منظّمة حول مواضيع مختارة بعناية — تعكس فهمًا عميقًا لديناميات النزاع وأهمية بناء الثقة بشكل تدريجي.

وفي أبريل 2020، خلال تصاعد التوتر بين شرق ليبيا وغربها، أُقيمت البطولة الوطنية لمناظرة المدارس بمشاركة أكثر من 120 مناظرًا من مدن مختلفة. وقد وصف المشاركون هذا الحدث بأنه تحوّلي، حيث أشار العديد منهم إلى أن التواصل المباشر مع أقرانهم من المناطق المنخرطة في النزاع ساهم في تفكيك الصور النمطية، وتقليل مشاعر الكراهية، وتعزيز نظرة أكثر موضوعية للنزاع.

وعلى الرغم من ردود الأفعال المتفاوتة من قبل المجتمع، إلا أن البطولة أثرت بشكل كبير على السرديات العامة والسياسات المرتبطة بها. ومن القصص اللافتة في هذا السياق، قصة شاب ليبي تحوّل من قيادة كتيبة مسلّحة إلى العمل في تمكين الشباب. يروي أبو سنينة:

“قرر أحد الشباب المقاتلين بعد انخراطه في نشاطات المناظرة وباحتكاكه بالشباب الفاعلين فيها تحويل مقر كتيبته إلى مركز تدريبي يعلّم المهارات التقنية والشخصية المختلفة. وعلى مدى ثلاث سنوات، قام بتسليم أسلحة الكتيبة للدولة، وتولى دورًا رسميًا في الحكومة، وأسّس مركزا تدريبيًا. وأصبح فاعلًا في مجالات بناء السلام والمشاركة المدنية والانتخابات، واستثمر وسائل التواصل الاجتماعي في التأثير على الرأي العام”

وتُجسد هذه القصص قدرة المناظرة على تغيير العقليات، وتشجيع الأفراد على تبني أساليب سلمية للتعبير عن آرائهم وتحقيق أهدافهم. ومع ذلك، تعد هذه النجاحات استثناءات فردية. ومن الضروري إجراء المزيد من البحوث لفهم التأثير الأوسع للمناظرة على التغيير الاجتماعي والسياسي. كما أنه من الأهمية بمكان، التأكيد على أن المناظرة ليست أداة لمعالجة العنف بعد وقوعه، بل وسيلة وقائية تُسهم في بناء مواطنة فاعلة وردع السلوكيات المدمّرة.

على الجانب الآخر، وفي الوقت الذي أثبتت فيه التجربة أن المناظرة تُعزّز قيم التسامح، وقبول الاختلاف، واحترام وجهات النظر المتنوعة. يجب الانتباه إلى أنها سلاح ذو حدين، وقد تنحرف أحيانًا عن أهدافها لتُصبح أداة تنافسية تُوظَّف لسحق الآخر والتفوق عليه بطرق غير أخلاقية. فجوهر المناظرة يكمن في التنافس السلمي القائم على الاحترام والنزاهة. وتُبرز تجربة ليبيا مع مؤسسات المناظرة المخاطر المرتبطة بفرط التركيز على الفوز، مما قد يؤدي إلى سلوكيات سلبية مثل الكذب أو العدائية. ويُعلق أبو سنينة:

“المناظرة ليست غاية في حد ذاتها، بل ينبغي أن تكون وسيلة لغرس القيم النبيلة، وتكوين أفراد واعين ومنفتحين الذهن”

وفي الختام، يتجاوز دور المناظرة في المجتمعات المتأثرة بالنزاع حدود تطوير المهارات الفردية؛ بل تمتد لكونها آلية فعالة لتحقيق المصالحة وتعزيز التماسك الاجتماعي، شريطة أن تُوجَّه بالقيم التي تعطي الأولوية للفهم والاحترام بدلًا من مجرد التنافس. وتُبرهن التجارب الليبية على إمكاناتها الكبيرة، وعلى ضرورة توخي الحذر للحفاظ على تأثيرها التحويلي البنّاء.

الخاتمة

تُبرز هذه الدراسة الإمكانات التحويلية للمناظرة كأداة لتعزيز الكفاءات المدنية، والتفكير الأخلاقي، والمشاركة العامة بين الشباب في السياقات المتأثرة بالنزاع مثل ليبيا. وتتوافق النتائج مع الأبحاث السابقة التي شددت على دور المناظرة في تنمية التفكير النقدي، والمنطق الأخلاقي، والمشاركة الفاعلة (Hess, 2009; Johnson & Johnson, 2009). وتشير النتائج إلى أن المناظرة المنظمة لا تزوّد المشاركين بمهارات التحليل واتخاذ القرار وحسب، بل تُعد أيضًا منصة لغرس القيم الديمقراطية وتعزيز التماسك الاجتماعي. وتؤكد هذه المعطيات على أهمية المناظرة في تعزيز المشاركة المدنية ودعم جهود بناء السلام في المجتمعات المنقسمة.

وفي إطار تحقيق أهداف البحث، تؤكد الدراسة أن المناظرة تُسهم بفعالية في تطوير المهارات المدنية والنقدية، لاسيما في البيئات التي قد تُقصّر فيها أساليب التعليم التقليدية (Omelicheva & Avdeyeva, 2008). ومن خلال آليات مثل التعلم التفاعلي، والانفتاح على وجهات نظر متنوعة، والتغذية الراجعة المنظمة، أظهرت برامج المناظرة قدرتها على تمكين الشباب وتعزيز مرونتهم الفكرية، وتعاطفهم، ووعيهم الأخلاقي. تتسق هذه النتائج مع ما توصلت إليه ديانا موتز (Mutz, 2006) بشأن تأثير النقاشات المنظمة حول القضايا المثيرة للجدل في تعزيز التسامح السياسي والحد من السرديات الانقسامية. كما تعكس الدراسة استنتاجات جونسون وجونسون (Johnson & Johnson, 2013) التي تشير إلى أن التفاعل الفكري النشط كالذي يحدث خلال المناظرات يُعزز الروابط الاجتماعية والثقة المتبادلة بشكل عميق.

وتُضيف هذه النتائج إلى الأدبيات الموجودة من خلال إبراز كيفية استخدام المناظرة لمعالجة التحديات الخاصة بالسياقات المتأثرة بالنزاع. وتنسجم النتائج مع أعمال كوليتا وكولن (Colletta & Cullen, 2000) التي تؤكد أن إشراك الشباب في مناظرات منظمة يمكن أن يُخفف من آثار النزاع، ويقلل من العنف، ويعزز الشعور بالفاعلية والقدرة على التأثير. وتُعد برامج المناظرة مثل مشروع “مناظرات المدارس” في ليبيا نموذجًا على قدرة هذه المبادرات على تنمية القيادة والمشاركة المدنية والمسؤولية الاجتماعية لدى الشباب، مما يوفّر مسارات عملية لإعادة بناء المجتمعات المتفككة.

ومع ذلك، تسلط الدراسة الضوء أيضًا على بعض التحديات، منها خطر تحول المناظرات إلى مجرد منافسات مفرطة قد تُفرغها من مضمونها التربوي الهادف. وتُشير هذه الإشكالية إلى ضرورة تصميم البرامج بعناية، على أسس قيمية قائمة على الاحترام والشمول، ما يُسهم في تطوير ممارسات فعالة لتطبيق المناظرة في البيئات المتأثرة بالنزاع.

ومن خلال الربط بين النتائج التجريبية والأدبيات القائمة، تُثري هذه الدراسة النقاش حول دور الأدوات التربوية المبتكرة في التعليم المدني، خصوصًا في سياقات إعادة البناء ما بعد النزاع. وتؤكد أن المناظرة، قادرة على تحويل الشباب إلى مواطنين واعين، أخلاقيين، ومنخرطين بفعالية في الشأن العام إذا ما طُبقت بطريقة فعّالة، مما يجعلها أداة عملية لتعزيز المشاركة الديمقراطية وبناء السلام المستدام. وتمثل هذه الاستنتاجات مصدر إلهام لصناع السياسات والمعلمين الساعين إلى توظيف المناظرة كاستراتيجية لتنمية الكفاءات المدنية وتعزيز المصالحة في المناطق المتأثرة بالنزاعات، مثل ليبيا.

بقلم:

هدى العروسي

مدير مشاريع
مؤسسة الحوار والمناظرة
نيويورك

عبد الرؤوف الجروشي

باحث في دراسات السلام
مؤسسة الحوار والمناظرة
طرابلس

0 Shares:
You May Also Like